Wednesday, May 29, 2013

التجسد و شركتنا في الحياة الإلهية (3) - مقتطفات آبائية قصيرة


إقرأ ما سبق هنا و هنا

تشاؤم اوغسطينوس في مقابل الرؤية الكتابية لايريناوس
أوغسطينوس و إيريناوس قرآ نفس فصول سفر التكوين 2-3، ولكن بالنسبة لأوغسطينوس الخطيئة الأصلية كانت كارثة أصلحها جزئيا فقط المسيح. في حين أنه بالنسبة لإيريناوس فالخطيئة كانت أشبه بسقوط طفل لأول مرة و هو يتعلم المشي . يمكننا المقابلة بين أراء الإثنين كما يلي:
قرأ أوغسطينوس القصة (سفر التكوين) بطريقة أكثر حرفية بكثير (من إيريناوس). كانت قصة خطيئة آدم وعقابه وموته بالنسبة له قصة من الماضي، ولكن جميع البشر، بما أنهم ذرية آدم، كانوا منغمسين في ذلك الماضي. على الرغم من خطيئة آدم لها عواقب مستمرة و مروعة لجميع نسل آدم، ليس هناك شيء يقدر ان يفعله هؤلاء الأحفاد حيال ذلك. وقعت كل الأحداث في الفصل الأول من قصة البشرية وكل الفصول اللاحقة تتحدث عن التطور الحتمي لعواقب هذه الأحداث.
بالنسبة لأوغسطينوس فإن عمل آدم حدد مصير الجنس البشري. ليس الأمر كذلك عند إيريناوس الذي عاش أقرب إلى زمن المسيح والرسل. بالنسبة لإيريناوس، المسيح يأخذ في نفسه كل الجنس البشري، بما في ذلك آدم، ويجعل عمله الخلاصي يشمل الجنس البشري بأكمله.
هذا هو أقوى إختلاف في فهم إيريناوس، لأن بالنسبة له تاريخ البشرية وتاريخ الخلاص هما نفس الشيء. هذا المسار قد يتلوى وينعطف في العديد من المسالك المخلتفة، ولكن ليس هناك اختلاف جذري ... كان مصير الجنس البشري مقدرا في آدم بالفعل، ولكن هذا القدر هو أن يصير على صورة الله وشبهه.



الفردوس والخطيئة
عمل ايريناوس المدعو الدليل على التبشير الرسولي يبدأ بنسخة ملخصة لكنها رائعة وجذابة لقصة الخلق والسقوط. الترجمة الإنجليزية (التي ترجم منها هذا النص إلى العربية) خاصة بجي بي سميث إس جي (J.P. Smith, S.J):

"ولكن الإنسان صنعه هو  بيديه آخذا من أنقى وأجود الثرى  و مزج قدرته هو ذاته بحساب و حكمة مع التربة ، لأنه أعطى له هيكل رسم شكله الخاص حتى أن المنظر المرئي له أيضا ينبغي أن يكون إلهي - إذ أنه على صورة الله تشكل الإنسان ووضع على وجه الأرض - و حتى ما  يأتي الى الحياة نفخ في وجهه نسمة الحياة، حتى أن الإنسان أصبح مثل الله في الإلهام كما في الهيكل ..." (الدليل، 11).

لاحظ عناية الله الخاصة في تشكيل الجسم البشري والروح: جعل الجسم "إلهي" في المظهر، والروح "إلهي" في الالهام. عند إيريناوس، كل ما يفعله الله جميل. شكل الجسم نفسه هو "إلهي" كما لاحظ معجبا بجماله. اكثر من ذلك فالروح إلهية. هذا هو نفس الحياة التي نفخه الله في الجسد. النفس هو صورة لله. وهو دائم، خالد، يعيش إلى الأبد (راجع الثاني- 34). وهذه الحياة الموهوبة  الفكر والإرادة الحرة لا تتوقف عن العيش متى جلبها الله إلى حيز الوجود. صورة الله مثل الله من حيث أنها لا نهاية لها وسوف تعيش الى الأبد. لكنها ليست مثل الله من حيث أن الله ليس له بداية، ولكن الروح  لها بداية.
"الشبه" لله مطبوع في حياة الإنسان، ومع ذلك، هو ليس جوهرها. هو هبة و يمكن القضاء عليها من الروح عن طريق الخطيئة. ولكن حتى بعد الخطيئة فالروح القدس يمكنه إعادة الشبه مرة أخرى (راجع الخامس، 6، 1). من الواضح أن إيريناوس كان معلما ماهرا حيث انه يوضح حقيقة أساسية لل المسيحيين الجدد الذين كانوا يعانون من أخطاء الغنوصية: أن الخطيئة تؤثر سلبا على الجمال الروحي للنفس ويدمر صورة الله التي تبنيها النعمة فيها. ولكن المرء لا يفقد كل شيء متى يذنب، لأن الروح القدس يمكنه أن يعيد المرء إلى المجد الأصلي.
النعمة يمكنها أن تدخل في الروح و يمكنها أن تتركها بسبب الخطيئة ثم تدخل مجددا. "الشبه" هو نفس الله الذي أعطاه الروح القدس: "الروح القدس شكل الإنسان على شبه الله" (الدليل رقم 5، انظر سميث ص 50). عندما يفقد الإنسان الصورة من خلال الخطيئة، يمكن للروح القدس إعادتها مرة أخرى.

كلمة الله يمشي مع آدم في الجنة
إيريناوس يرسم صورة شاعرية للفردوس البكر. و قد يكون استخدم مثال تعليمي متداول في ذلك الوقت. كانت الحياة في الفردوس جميلة قبل الخطيئة. الله كان قد أعد الحديقة لآدم، و الحيوانات فيها كانت قد كبرت بالفعل. و لكن آدم وحواء كانا لا يزالان أطفال. إيريناوس عادة ما يقول أن "كلمة الله" هو الذي يمشي في الفردوس مع والدينا الأولين، "مشيرا" إلى تجسده في المستقبل.
و كم كانت جميلة جدا و طيبة تلك الحديقة، و كلمة الله كان يمشي باستمرار فيها؛ كان يتجول ويتحدث مع الإنسان مشيرا إلى ما كان سيأتي مستقبلا، وكيف انه سيصبح رفيق الإنسان، و سيتحدث معه ، ويأتي في وسط البشر معلما اياهم  العدالة (الدليل، 12).

Saturday, May 25, 2013

التجسد و شركتنا في الحياة الإلهية (2) - مقتطفات آبائية قصيرة


إقرأ ما سبق هنا.


القديس إيريناوس، مؤسس اللاهوت المسيحي

جاء إيريناوس من سميرنا الناطقة باليونانية في آسيا الصغرى، حيث ورث تعليم اللاهوت الشرقي بشأن الخطيئة، بقدر ما كان قد وضع هذا التعليم اللاهوتي. في شبابه تعلم العقيدة عند قدمي أسقفه، الشهيد مستقبلا القديس بوليكاربوس (c.69-c.155). بالكاد مائة كيلومتر من سميرنا كانت أفسس، و يقال انها كانت منزل مريم والقديس يوحنا. لم يكن يوحنا أبدا بعيدا عن مريم، بوليكاربوس لم يكن أبدا بعيدا عن يوحنا، وإيريناوس جلس عند قدمي بوليكاربوس لتعلم التقليد الرسولي عند منبعه الأصلي. يكتب عن ذلك إلى القسيس الروماني فلورينوس فيقول:
"لذا و عندما كنت لا أزال صبيا، عرفتك أنت (فلورينوس) في آسيا السفلى، في منزل بوليكاربوس ... أتذكر أحداث تلك الأيام أكثر وضوحا من تلك التي حدثت مؤخرا ... كيف انه (بوليكاربوس) جلس وتجادل ، ... كيف حكى عن حواره مع يوحنا ومع الآخرين الذين رأوا الرب، وكيف كان يتذكر كلماتهم، وما هي الأمور المختصة بالرب التي كان قد سمعها منهم، وكيف أن بوليكاربوس تلقى كل ذلك من شهود العيان على كلمة الحياة، وذكر كل الأمور بالاتفاق مع الكتب المقدسة. لقد استمعت بحماس حتى آنذاك إلى هذه الأشياء ... واحتفظت بملاحظات عنهم، ليس على ورق، ولكن في قلبي، و بنعمة الله دائما ما أقوم بالتأمل فيهم." (يوسابيوس. تاريخ الكنيسة 05:20، 5-7؛ الترجمة ليوهانس كواستن، الآبائيات أ ، 287).
ولذلك فشهادة إيريناوس على الإنجيل لا تقدر بثمن. انتقل من سميرنا إلى فرنسا حيث خدم كاهنا في ليون حيث أوقرته رعيته للغاية. و بينما كان مسافرا في روما في 177، شب إضطهاد في ليون خلاله استشهد أسقفها، القديس بوثينوس. عند عودة إيريناوس جعلوه أسقف ليون في حوالي العام 178. من كتاباته نحصل على عرض متميز للتعاليم الخاصة بالخطيئة الأصلية التي كان يتم تداولها في الكنيسة الأولى.
بقى عدد قليل من خطابات إيريناوس خلال القرون، ولكن العملين الأعظم اللذان دعي "مؤسس اللاهوت المسيحي" بفضلهم هم كتاب "الدليل على التبشير الرسولي" (سنشير إليه من الآن فصاعدا باسم "الدليل") ومجموعة من خمسة مجلدات تسمى "ضد الهرطقات" (سنشير إليه من الآن برقم الكتاب و الفصل والفقرة، على سبيل المثال: الثالث 22،8). كتب باللغة اليونانية، ولكن يبقى القليل من النسخ الأصلية. حفظ كتاب "الدليل" في ترجمة بالأرمينية وضد. الهرطقات في اللاتينية (راجع يوهانس كواستن الآبائيات أ ، 290). وكان هذا العمل الأخير مقنعا بشدة حتى أنه عمليا يعتبر قدم رصاصة الرحمة إلى البدع الغنوصية التي كانت تختمر و تنتشر وتحظى بشعبية كبيرة بين هواة المسيحيين في جزء كبير من حوض البحر الأبيض المتوسط في عصره - بشكل ليس مختلفا كثيرا عن خميرة العصر الجديد التي تعتمل في أمريكا اليوم.
كان لإيريناوس اعتزازا خاص بإعطاءه شاهدا على التقليد كما سلمه الرسل (راجع الثالث 3 3). يكتب بجاذبية، وأحيانا بالفكاهة، ولكن نادرا ما يكتب ببلاغة الكلام و يرجو منا ان نتفهم ذلك.
هذا الأب الأولى في الكنيسة يقتبس من الأناجيل والرسائل العهد القديم والجديد لبناء حججه. بينما لم يكن قد تم بعد وضع الترتيب الشرعي للعهد الجديد، ولكنه يستشهد بحرية كما من الكتابات المقدسة من كتب من شأنها أن تصبح في وقت لاحق جزءا رسميا من كتب العهد الجديد.





المسيح، رأس الخليقة و جامع الكون إلى الله. (Re-Capitulator of the Cosmos)

دور المسيح كرأس الجنس البشري و جامعه إلى الله من خلال التجسد والفداء يشكل جوهر التعليم اللاهوتي الخاص بإيريناوس. قديس ليون يعرف الشخص الثاني في الثالوث القدوس باعتباره هو الذي يتعامل مع البشر في العهد القديم حتى قبل تجسده. بل بالفعل إن ابن الله ذاته هو من صمم الكون بشكل خلاق، الذي كيفه ليكون بيئة تليق لسكناه في المستقبل. هذا الفكر يتفق مع الرسالة إلى العبرانيين، حيث يتناول الآب هذا الشاهد شديد الأهمية على المسيح بوصفه المؤسس للكون: "انت، يا رب، قد أسست الأرض في البداية، والسماوات هم عمل يديك" (عب 1 : 10) القديس إيريناوس يتبع هذا بفكرة أن المسيح ليس فقط خالق الكون، وإنما هو أيضا سبب وجوده، و السبب في خلقته في المقام الأول. جميع خطوط الكون بالتالي تركز على المسيح. المسيح ليس فكرة لاحقة ولدت في عقل الله كرد فعل على خطيئة آدم، بل على العكس، المسيح هو الألف والياء للكون في المقام الأول؛ و تم وضع آدم في الخطط الكونية بوصفه البوابة الإستراتيجية التي من خلالها سيدخل المسيح:
"و يجمع (recapitulates) في نفسه كل الأمم التي فرقت منذ آدم، وجميع اللغات وأجيال البشر، بما فيهم آدم نفسه. ولهذا السبب يدعو القديس بولس آدم "نوع من الواحد الذي كان سيأتي" (راجع روم 5:14)، لأن الكلمة صانع كل شيء، صنع  في آدم رسم أولي لما، في خطة الله ، كان سيأتي إلى الجنس البشري من خلال ابن الله. رتب الله الأمور بحيث يكون الإنسان الأول حيوان بالطبيعة و يخلص من قبل الإنسان الروحي. و لأن المخلص موجود بالفعل، كان ينبغي أن يأتي بذاك الذي سوف يخلص إلى حيز الوجود، حتى أن المخلص لا يذهب سدى" (ضد الهرطقات الثالث، 22،3؛. الترجمة بواسطة جون ساوارد، 64).
لاحظ هذه الجملة الأخيرة الفريدة المحملة بالمعنى . فإنها تجعل آدم "رجل الجبهة" الذي يمهد الطريق للحدث الرئيسي الذي هو وصول المسيح. إيريناوس يقدم المسيح بوصفه الشخصية البارزة والمهيمنة التي هي محور التخطيط الإلهي. المسيح، البانتوكراتور الضابط الكل، هو النقطة المحورية في تصميم الله للكون الذي سيتم خلقه، والشخصية المركزية التي لأجلها يقيس الله رسم الكون. انه يتطلع الى المسيح بوصفه حجر الزاوية للكون، في حين أن آدم يدخل إليه بشكل ثانوي في التسلسل المنطقي اتباع المسيح،  "حتى أن المخلص لا يذهب سدى." يتم خلق آدم ليقدم للمسيح قضية تستحق تفعيل محبته العظيمة. في اللاتينية تقرأ هذه الجملة الاستثنائية هكذا:
Cum enim praeexisteret salvans, opportebat et quod salvaretur fieri, uti non vacuum si
salvans.
يتم إدخال آدم ليصبح المستفيد من عمل الحب الذي للمسيح.

هنا فكر إيريناوس يختلف عن أوغسطينوس وتوماس الأكويني. إيريناوس يرى المسيح قبل أن يجد آدم. المسيح هو الملك الكوني المهيمن، وآدم هو البيدق الخادم. في حين يرى أوغسطينوس وتوماس آدم قبل أن يروا المسيح. آدم ، بواسطة ذنبه، يحدث تغييرا في خطط الله الأصلية ، أي إرسال المسيح إلى الكون. توماس يميل إلى الاتفاق مع أوغسطينوس الذي يقتبس عنه: "أوغسطينوس يقول (De Verb. Apost.8,2) . '... لذلك إذا لم يكن الإنسان قد أخطأ، لما أتى ابن الإنسان" الخلاصة اللاهوتية الكتاب الثالث، 1، 3). وبعبارة أخرى، الله قضى بتجسد المسيح كاستجابة لخطيئة آدم، لإنقاذ الوضع بعد أن أفسد آدم خطة الله الأولى عن طريق ارتكاب الخطيئة الأصلية. ليس كذلك إيريناوس، الذي يقدم المسيح على أنه الشخصية السائدة بل و سبب وجود جميع الخليقة. آدم أمر ثانوي في خطط الله، بصفته ذاك الذي يخلقه الله للمسيح لكي يقدسه. الله، كما يحاجج إيريناوس، كان قد كتب وظيفة المسيح بوصفه المحور المركزي للكون قبل اتخاذ الخطيئة في الحسابات الإلهية. دونس سكوتس (رحل عام 1308) طور فيما بعد هذا الفكر الرائع لإيريناوس بشكل اكثر اكتمالا.


و كلمة salvans (ذاك الذي يخلص) التي يستخدمها إيريناوس لتحديد دور المسيح لا يقتصر مغزاها فقط على المعنى الضيق للمخلص الذي يدفع مجرد فدية لإنقاذ الخطاة. كلمة المخلص تعني لإيريناوس، وإلى الآباء اليونانيين عادة، الدور الأكثر شمولاً لذاك الذي يقدس. المقدس (بكسر الدال) يرفع الإنسان الطبيعي إلى حالة أعظم من الطبيعة في الأصل، و كذلك بعد السقوط. المسيح، فى رؤية إيريناوس، رفع آدم إلى حالة من القداسة والعدالة قبل السقوط، و أيضا رده بعد السقوط. إنه يعتبر أكثر من مجرد عامل تصليح يرمم منتج تالف. بل هو مهندس معماري يبني البنية في الأصل وفقا لخطة الله الأولية، ومن ثم يرممها بشكل أكثر روعة عقب حادث آدم المؤقت.