Tuesday, August 9, 2011

أين العزاء؟

مشي ببطء ناحية مقدمة الكنيسة، وقف أمام ما يسمونه بستر الهيكل، باب من القماش قرمزي، مخملي الملمس و عليه نقش كبير لفارس في كامل عدة الحرب على حصان أبيض، في يده رمح يطعن به كائن غير معروف، ذو لسان معوج.
وقف منحنيا أمامه، ثم خر على ركبتيه فجأة كمن سقط، و أحنى جبهته للأرض.
قام ببطء، و رفع يداه - و إن لم يرفع رأسه.

جدي رجل قوي، هكذا عرفته دائما.
صعيدي رصين، حازم، ذكي، قوي.
و لكني لم أعرفه أبدا وحيدا، كانت جدتي دائما معه.
و الآن هي ليست معه، أعتقد انه يمكننا الآن ان نسمح له بأن لا يكون قويا و لو لليوم فقط.
جلس في أول صف في الكنيسة بحسب الأصول، و انضم له أبي بعد قليل،  ثم انضممت أنا لهم.
أشعر بأني غير مرئي. أنا خارج الموقف، أراه من بعيد و أكتب عنه في ذهني.

بعد قليل من الوقت يدخل اربعة رجال حاملين صندوقا يضعوه امام الهيكل.
يا الله، كم هو صغير!
كيف يمكن ان يسع هذا الصندوق الصغير إنسانا؟
و لماذا صندوق؟ أليست الصناديق للأشياء لا للناس؟؟

أين العزاء؟

أشيح بوجهي فيقع بصري على لافتة ورقية صغيرة على أحد أعمدة الكنيسة: رجاء محبة عدم لمس الزهور. ابن الطاعة تحل عليه البركة.
يخطر ببالي أنه من الأنسب ان نترك الزهور تحمل البركة، خاصة في وقت كهذا. أذكر نفسي بأن الوقت غير مناسب لهذه الأفكار.
يبدأ الكاهن في تلاوة الصلوات باللغة القبطية القديمة. أفكر لماذا لا يتلو الصلوات بالعربية، خاصة في ظرف بهذه الخصوصية.
أقرر أن غالبا اللغة القبطية أفضل، فربما نبكي إذا فهمنا الكلمات.
بعد قليل يبدأ في القاء كلمة على الحضور. يقول شيئا ما عن ضرورة قرب الإنسان من الكنيسة حتى متى وافته المنية كان مستعدا. لا أنتبه لأغلب ما يقول.
ينهي الكاهن الصلاة، فجأة يندفع جدي نحو الصندوق و يهوي بيداه و رأسه على سطحه. يصرخ و لا أسمع من صراخه سوى "صليلي أحصلك".
يبعده أبي برفق عن الصندوق، يقوده للخارج منحنيا، و أتبعهم أنا.
نقف بالخارج و يمر الحضور بنا، يسلمون باليد و بالتقبيل أحيانا.

أين العزاء؟

يركب أبي و جدي و معهم الكثير من الأقارب سويا في حافلة خاصة صغيرة. تسير خلف سيارة نقل الموتى و تتجه نحو المدافن. أتبعهم أنا في سيارتي.
نصارع زحام شهر رمضان وقت الظهيرة، نصل إلى أرض المدافن. نترجل و نسير سويا، يتقدمنا شابين يعملون بالمدفن يبحثون عن المكان الذي اشتراه و أعده جدي لهذا اليوم.
نجده بعد عناء. يفتح الشابين بابه الأسود الصغير المغطى بخيوط العنكبوت.
يحمل الرجال الصندوق و ينزلونه المقبرة، يحاول جدي ان يمسك به مرة أخيرة. يودعها مرة أخيرة.

يصيح أحدهم ان نصلي سويا فنفعل ذلك.
أبانا الذي في السموات. ليتقدس اسمك. لتكن مشيئتك.

اتأبط ذراع جدي و أسير معه للخارج ببطء. لا نتكلم عن شيئا يذكر حتى نصل إلى الحافلة. أساعده في الصعود و اقول له اني سأراه في المنزل بعد قليل.
أذهب إلى بيت جدتي و نتناول الغداء سويا كلنا، بدونها لأول مرة.

بعد قليل يذهبون و أنا معهم  إلى مبنى ملحق بالكنيسة لنستقبل واجب العزاء من الأصدقاء و الأقارب، في القاعة نسمع بضعة عظات مسجلة، جافة.
يمر اسقف، و كاهن، و شماس.
يلقون هم أيضا عظات جافة.

و أنا مازلت انظر حولي إلى الجميع.

أين العزاء؟

No comments:

Post a Comment