Sunday, January 6, 2013

في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 2- أزمة الإستمرارية

أهلا بك يا عزيزي.

هل قرأت المقدمة؟ أنصحك بأن تفعل.
قرأتها؟ إذن فلنبدأ.

ككل تعليم، يحتاج التعليم المسيحي أن يرتكز على شيء ما في واقع الحياة ليكون ذات صلة في ذهن المؤمنين -و غيرهم-  بالكون كما يعرفه و يختبره المتلقي شخصيا. هذه الخبرة الشخصية يجب ان ترتبط بصلة وثيقة بمركز هذا التعليم، ليقدر هذا التعليم على الإستمرار في ان يكون مهما و متواقتا و مؤثرا، و إلا يصبح هناك ازمة في إستمرارية هذا التعليم.

دعني أعطيك مثالا:الخطاب السلفي الإسلامي مثلا يركز على قصص السلف و العودة إلى أمجادهم، و بالتالي يحتاج إلى إستحضار أجواء فجر الاسلام في ذهن المتلقي. هذا يخلق أزمة واضحة في الإستمرارية.

ما يعنيه ذلك هو أنه عندما يكون قلب القصة الإسلامية المقدمة هو الدعوة وسط الكفار و المشركين، فإن السرد يفقد أهميته فور فوز المسلمين و هزيمة الكفار. التجربة الروحية هنا تعتمد على وجود حرب بين مجتمع الكفار و الرسول الثائر صاحب الرسالة. بدون ذلك تصير قصص الرسول و الصحابة و المعارك و الفتوحات غير ذات صلة بعقلية المؤمن اليوم، و لا يستطيع أن يتواصل معها.
لذلك فالخطاب السلفي يحتاج و بشدة لوجود الكفار اليوم. ليس ذلك فقط بل و يحتاج ان تكون محاربة الإسلام و المسلمين هي الشغل الشاغل لهؤلاء الكفار - تماما مثل قصص فجر الإسلام. لذلك يتحدثون كثيرا عن مؤامرة الغرب الكافر على الإسلام و اضطهاد المسلمين. الإرتكاز على هذه الخلفية مهم ليظل طرحهم للإسلام ذات صلة بحاضر المؤمن.

بالمثل عندنا في تعليمنا المسيحي المعاصر، عندما أصبح قلب القصة المسيحية هو الصليب و الكفارة بمعنى الإبدال العقوبي تحديدا -أي موت المسيح كعقاب بديل عن عقاب الخطاة- خلقنا بذلك أزمة إستمرارية، حيث فقدت القصة أهميتها بعدما رفع الذنب عن الخاطئ. فالقصة تقول لك ان المسيح مات بديلا عنك لأنك خاطئ مستحقا للموت، و عليك الآن ان تتوب لكي لا تذهب تضحيته هباءا. لكن ماذا لو لم تكن تشعر بانك خاطئ إلى هذه الدرجة؟
أي ان المسيحي اليوم الذي لا يرتكب أي خطايا 'كبيرة' بما يكفي لتوليد إحساس دائم بالذنب يبدأ في الشعور بأن قصة المسيح لا  تخصه، يجلس أمام المعلم في الكنيسة و يفكر هكذا: حسنا، كنت خاطئا -غالبا في أيام مراهقتي و "الخطيئة" غالبا هي بعض الفضول الجنسي- و حمل المسيح عقوبتي بدلا مني، لكني لست خاطئا الآن، ماذا لديك لتقول لي؟

هنا ليظل طرح التعليم المسيحي "مهما" تبدأ الكنيسة في التعظيم من قدر الخطيئة و تأثيرها -بل و خلقها حينما لا تكون موجودة اصلا- و تغذية الشعور بالذنب عند متلقي التعليم، حتى يصل الأمر إلى أن يصير المسيحيين معروفين في العالم كله بثقافة ذنب لا مثيل لها. و ليس ذلك من فراغ، فالذنب ركن أساسي من أركان التعليم المسيحي المعاصر، و البابا تاوضروس مثلا عندما ذهب إلى كنيسة القديسين في الأسكندرية ليعظ، حكى عن المرأة الفاضلة التي تخاف أنها قد تكتشف عندما تقابل خالقها إنها كانت تضيع وقتها بالعمل في المطبخ، و أن يحاسبها على ذلك. حكى ذلك و استرسل في كيف اننا يمكننا ان نضيع وقتنا في العديد من الأشياء التي تبدو عادية كالنوم و الأكل... الخ!

الإحساس بالذنب هنا أساسي -تماما مثل الشعور بالاضهاد عند السلفي- فمنه يستمد التعليم معناه و أهميته و يتحول من قصة قديمة إلى واقع يخص المؤمن شخصيا.

يخلق ذلك مشكلة أخرى متعلقة و هي حتمية الفشل في الحياة الروحية. فبرغم التعليم عن ضرورة التوبة و تغيير الذهن، فإنه يجب على المؤمن ان يفشل في ذلك أو على الأقل ان يكون نجاحه مؤقتا، حتى يستطيع ان ينظر إلى الصليب ثانيا و يمر بالتجربة الروحية المرتبطة بذلك و من ثم يتوب لينال الغفران ثانيا، لكي تستمر التجربة الروحية.

أذكر مثلا عندما كنت حاضرا لدرس للكتاب المقدس في احدى كنائس المهجر و سأل المعلم الحاضرين عن هدف الصوم، و كان الرد التقليدي هو: لكي نتغير.
حسنا، ألا يعني هذا انه إن نجحنا في التغيير لن نحتاج إلى الصوم بعد ذلك؟ إما ذلك أو يكون صيامنا -هذا الصوم و الماضي و القادم- فاشلا!

هل ترى المشكلة يا عزيزي؟ لكي يستمر هذا التعليم كما هو، يجب عليه ان يسير بالمؤمن في دوائر: انت مذنب، يجب ان تتوب و تتغير، انت لا زلت مذنب، يجب ان تتوب و تتغير... الخ.
يساعد هذا التعليم على الإستمرار في بلادنا هوس المجتمع بالجنس و رفضه له في نفس الوقت، مما يوفر للمؤمن مصدر متجدد للإحساس بالذنب. و لكن ذلك لا يكفي للحفاظ على الكثير من الناس داخل الكنيسة -هؤلاء الذين تخطوا هذا الهوس بطريقة أو أخرى- كما يفقد أهميته تماما في الخارج حيث لا يعتبر أغلبية الناس ممارسة الجنس أو التفكير فيه خطيئة تستوجب العقاب.

و لكن إذا كان مركز التعليم المسيحي هو نصرة الحياة على الموت، حيث لا يأخذ الذنب بمفهومنا له دور العدو الأكبر بل الموت كما شرحه أثناسيوس مثلا، و حيث تكون قصة فداء الله هي قصة اتحاده بالبشرية (و مركزها الميلاد) و نصرته لها على الموت و الألم  (و مركز القصة هنا هو القيامة و ليس الصليب، النصرة و ليس الموت) ثم تأليه تلك البشرية بحلول الروح القدس فيها، تصبح رحلتنا معه و مع الكنيسة هي رحلة تأليه بدلا من إعادة تدوير دائمة لمشاعر الذنب و الغفران.

كم كان سيكون أفضل لو في الجنازات تحدثت عظات الكهنة عن القيامة و الرجاء في الحي الذي لا يموت، بدلا من قصر الأيام و ضرورة التعجيل بالتوبة.

كم كان سيكون أفضل لو أن البابا تاوضروس في كنيسة القديسين بالأسكندرية -تلك التي عانت من الموت أكثر من كنائس كثيرة- تحدث عن كسر شوكة الموت و نصرتنا في المسيح عليه، بدلا من الإستثمار في مشاعر الذنب التي لسيدة مسكينة مضطربة.

أليس هذا أفضل كثيرا؟ أليس أكثر إستمرارية و تواقت و أهمية؟ أليس ذو صلة وثيقة باختبارنا للحياة التي نحارب فيها الموت و الألم بشكل دائم؟

أعتقد ذلك، و أعتقد أيضا ان ابتعاد الكثيرين عن الكنيسة يرجع إلى انهم ببساطة فقدوا اهتمامهم بالتعليم، فهو بفكره الحالي غير قادر على ان يظل ذو أهمية و صلة بحياتهم، و بالتالي أصبحت دعوات الكنيسة للتبعية مضجرة و بلا فائدة.

مما يقودنا الى مشكلة التبعية، و تدوينة أخرى قادمة.


No comments:

Post a Comment