Friday, January 18, 2013

في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 3- حيلة التبعية

أرحب بك مرة أخرى يا عزيزي، و أذكرك بضرورة قراءة المقدمة.
أما إن كنت قد قرأتها قبل ذلك، فلا داعي لإضاعة المزيد من الوقت و لندخل في الموضوع.

في المرة السابقة قلت لك اني أرى ان اتجاه الفكر المسيحي الحالي يقود المؤمن في دوائر من الذنب و الغفران، و ان ذلك نتيجة مباشرة لتمحور ذلك الفكر حول موت المسيح -و بالتحديد فكرة موته كعقوبة استحققتها أنت- بدلا من حياته و قيامته. أدى ذلك إلى أن دعوات الكنيسة للتبعية أصبحت مضجرة للمستمع.

هنا اعتقد أننا بحاجة لأن نتذكر لماذا تدعوا الكنيسة الناس للتبعية أصلا و لمن تدعوهم.
إجابة هذا السؤال تبدو سهلة: الكنيسة تدعو الناس ليتبعوا المسيح. 
اللوحة المعلقة امام الكنيسة في الصورة هي مثال لتلك الدعوة، يقول لك الملصق أنه مازال من الحكمة ان تتبع المسيح، و الصورة للثلاثة مجوس "حكماء الشرق". و أعتقد ان المقصود هو دعوتك للحضور إلى الكنيسة. (فهذا هو الهدف من الرسائل التي تعلق في هذه اللوحة)

المشكلة هنا هي أن التدقيق في معنى تلك الدعوة يكشف إنها دعوة فارغة من المضمون، و بالتالي فهي تتحول إلى عملية "طعم و تبديل" (نوع من الاحتيال) سواء عن أو بدون قصد.

دعني اشرح لك ما أقصد.
عندما كان المسيح يجول مدن إسرائيل كان بعض الناس يتبعونه، بعضهم دعي للتبعية مباشرة مثل التلاميذ و البعض الآخر ذهب وراءه لأنه كان يشفي المرضى و يطعم الجياع، و البعض الآخر لأنهم كانوا يبحثون عن من يقودهم ضد الإحتلال - هذا هو ما تعلمناه في مدارس الأحد.
و لكن بغض النظر عن السبب، فهناك بعض الأشياء المشتركة بين هؤلاء الأتباع. فأولا هم كانوا يعرفون أنهم يتبعون رجلا رحالا ليس له منزلا ثابتا.

هذا هو أول فارق هام بين دعوة الكنيسة للناس الآن و دعوة المسيح لتلاميذه مثلا.
 فالكنيسة لا تدعوا الناس إلى الترحال. إنها لا تدعوهم للخروج من دائرة راحتهم و إلى عالم أكبر و أكثر خطرا، بل على العكس تماما، الكنيسة تدعوا الناس إلى الدخول في جماعة و التردد على مكان اجتماعها -الثابت- بانتظام.

الكنيسة تدعوك للإنتماء يا عزيزي.
و إذا أردنا الدقة فالكنيسة تقدم لك بالتفصيل شيئين: مجتمع تنضم إليه و إنتماء تنسب اليه نفسك (أن تكون مسيحيا).

المشكلة المبدئية هنا هي ان برغم ان هذه الدعوة في ظاهرها عامة، ففي الواقع محاولة الغريب للإنضمام لذلك المجتمع المسمى بالكنيسة تكشف له أنه بحاجة إلى أن يتطابق أولا مع معاييرهم للفضيلة و المظهر الملائم بل و يكون من نفس المستوى الإجتماعي لباقي الأعضاء. (أنظر أين يذهب البسطاء ماديا في الكنائس الغنية، فقد وصل الأمر ببعض الكنائس لعمل إجتماعات مختلفة بيحسب انتماؤك للطبقة العليا أو الوسطى أو إلى "اخوة الرب").
هذا الإحتياج للتطابق أصبح بمثابة هوس داخل الكنائس برغم ان الجمع الذي كان المسيح يجلس في وسطه لم يكن كذلك. و لكن لا عجب في ذلك، فعندما يكون الهدف الأسمى للكنيسة هو ان ينتمي اليها أعضاء أكثر فمن الطبيعي ان تسعى الجماعة -أو من يظل فيها- للتقليل من مظاهر الإختلاف ليصبح هذا الإنتماء أسهل و تصير الجماعة اكثر تلاحما.

هذا هو أول اختلاف نوعي واضح، ان الكنيسة تدعو إلى الإنضمام، تدعو الناس للتطابق بينما لم يهتم المسيح بذلك اطلاقا. الكنيسة تدعو الناس "للدخول" بينما المسيح دعى الناس "للخروج".
ثاني إختلاف هو أنه بينما كان معاصري المسيح يتبعونه شخصيا، فالمؤمن اليوم مدعو لتبعية من لا يرى. و لنتفق من الآن على أنه من المستحيل عمليا ان تتبع شخصا غير مرئيا، خاصة عندما لا يكون قد ترك "لأتباعه" خطوات مفصلة للأسلوب الذي يعتقد أنهم يجب ان يعيشوا به حياتهم.
فالإنجيل و إن كان فيه بعض التعاليم الروحية و الفلسفية فهو ليس وصفيا بما يكفي ليؤدي تلك المهمة أي أن يكون دليل إستخدام للحياة. و إن كان ذلك لم يمنع بعض المعلمين في الكنيسة ان يقولوا ذلك بالظبط، متجاهلين حتى الأسباب المعروفة لكتابة كل سفر (كالرسالة و البشارة و التأريخ و الشعر) و أنه لا يوجد في الكتابات المقدسة كلها كتاب واحد يقول عن نفسه أنه سيخبر القارئ كيف يعيش حياته - بعكس الكتب المقدسة في ديانات أخرى كالإسلام مثلا.

و بما ان الأتباع هنا لا يرون سيدهم، وليس لديهم توجيهات شاملة كتبها هو، تضطر الكنيسة لعرض شخص بديل -مرئي- عليك لكي تتبعه: المعلم أو الكاهن أو الأسقف أو البطريرك.

المشكلة البديهية التي ينتجها هذا و نعلم أننا عانينا منها كثيرا هي النظر إلى الاكليروس على أنهم وكلاء المسيح و إعتبار البطريرك "رمز ديني" و إعتبار أي نقد موجه لهم و له هو نقد للمسيحية و هجوم على الكنيسة. و لن أضيع وقتك عزيزي في تفصيل كيف نخر هذا في عظام الكنيسة حتى أعيى الجسد تماما، فأنا متأكد أنك قد سمعت ما يكفي عن ذلك.

و لكن المشكلة الأكبر و الأعم الناتجة عن التعليم بأهمية التبعية هي أن الفكر المسيحي المعاصر صار قائما على التمييز بين الأتباع و غيرهم.

و لنرجع للملصق الذي يقول لك أنه مازال من الحكمة ان تتبع المسيح مثل المجوس و لنتوقف هنا لحظة.
هل تبع المجوس المسيح فعلا؟
قصة الميلاد تقول لنا ان المجوس ظلوا يتبعون النجم حتى وصلوا إلى بيت لحم، ثم قدموا هداياهم للملك الطفل، ثم عادوا إلى بلادهم.
عادوا و هم مازالوا مجوسا...
لقاء عابر مع الملك، ثم رحلوا. قصة الميلاد كلها في الحقيقة هي عبارة عن لقاءات عابرة في ظروف عابرة (الملائكة و الرعاة، المجوس و هداياهم، الميلاد في المذود).
و بجانب قصة الميلاد الذي كان فيها المسيح طفلا لا يمكنه أن يقود أتباع، فإن كل لقاءات المسيح بعد ذلك هي مع شخصيات نسمع عنها مرة أو مرتين على الأكثر، و هذا شيئا متوقعا فكما علمونا فالمسيح كان رحالا "يجول يصنع خيرا".
و لكن ألا يوحي ذلك بأن تلك اللقاءات العابرة هي ذات أهمية كبيرة؟
بمعنى آخر، إذا كانت قصة الإنجيل عن كيف أنشأ المسيح كنائس في أماكن عدة و كيف انضم اليها الناس و كيف قامت الحرب بين اليهود في ذلك الزمن و أتباع الدين الجديد (مثل قصة نشأة الاسلام مثلا)، إذا كانت تلك هي القصة كان سيكون من الطبيعي و المنطقي أن يهتم التعليم المسيحي بدعوة الناس للتبعية و تمييز الأتباع عن الآخرين.
و لكن القصة ليست كذلك، القصة في الحقيقة تعطي اهمية كبيرة جدا للقاءات عابرة بينما لا تحتوي على الكثير عن إنشاء كنيسة أو تكوين جماعة. لم يكن للمسيح مقر قيادة يذهب اليه الناس و يدير عمليات "التبشير" و شؤون الأعضاء. حتى سفر أعمال الرسل يحكي عن رحلات بولس بدلا من ان يحكي عن أحوال الكنائس التي نشأت في المدن التي بشر فيها.

و لا أرى أن المسيح ذاته كان مهتما بفكرة التبعية. فالمسيح لم يكن مهتما بزيادة عدد أتباعه، بل بالعكس، و لم يكن مهتما بحكر اسمه و عمله على تلاميذه فقط. بل و في لقاءه مع بيلاطس حينما كان يواجه حكم الموت كان رده قاطعا بأنه ليس له أتباع من هذا النوع أي أناس يدينون له بالولاء.
و لكن ماذا عن أولئك الذين دعاهم المسيح ليتبعوه؟ أنا أرى ان هؤلاء كانوا مدعوون للطواف على القرى و البلاد لينشروا البشارة بالملكوت (و سنتطرق لذلك في تدوينة أخرى) و يشهدوا أمام حكام و ملوك. هذا قد يفسر الكثير من ما قاله المسيح عن من يضع يده على المحراث و ينظر إلى الوراء أو أن تدع الموتى يدفنون موتاهم و غير ذلك من التعليم النضالي المتشدد. أي أن هؤلاء كانوا مدعوون لعمل محدد بالغ الصعوبة و يحتاج إلى إستعداد للشهادة و لذلك كان يجب عليهم ان يكونوا 'مستبيعين'، و كما قلت فهذه الدعوة لم تكن عامة، فإنه في نفس القطعة المذكورة يثني آخر عن إتباعه.

لا ارى ان هذا غريبا على الإطلاق، فالمسيح لم يحاول أن يؤسس ديانة أو جماعة. بل بالأحرى فإيماني هو أن مهمة المسيح هي إحداث تغيير أنطولوجي في البشرية كلها و تغيير علاقتها بالكون و صانعه.
أين مقومات التبعية الدينية في حياة و تعاليم المسيح من نصوص وصفية حاكمة و هيئة إدارية هيكلية و مركز جغرافي للدعوة أو للتجمع الديني و نظام عبادة؟
أين تأتي التبعية في تلك الصورة؟ أو بتعبير أدق اين تأتي التبعية الواعية الاختيارية التي يدعي التعليم المسيحي الآن أنها هي باب الملكوت؟ و إذا كانت تلك التبعية شرطا لإحداث التغيير الذي أتى به المسيح فلماذا لم يهتم هو بها؟

ربما يجب علينا ان نكف عن النظر إلى العالم على أنه عبارة عن "معسكرين" ثابتين أحدهم تابع للمسيح و الآخر ضده، احدهم هو كنيسة و الآخر هو باقي العالم.
لا اعني بالتأكيد أنه لا يوجد نوع من الصراع في العالم بين قوى الموت و العدم و بين الحياة و النور، فقط أعني أن الكنيسة كمؤسسة ليست أحد هذين المعسكرين، و ليس من المفروض ان نعتبرها كذلك. الصراع أعقد و أكثر حميمية من ان يكون بين من يدين بالولاء لإسم ما و من لا يدينون به.

و ربما لا تكون التبعية شيئا مهما أصلا.

هذه مشكلة طبعا، خاصة عندما تكون تبعية المسيح هي الدعوة الأساسية للفكر المسيحي الحالي. تعرض الكنيسة عليك تبعية المسيح ثم عندما "تشتري" منها ذلك تعطيك تبعية الكنيسة التي تختلف تماما. هذا هو ما اقصده بحيلة الطعم و التبديل: أقول لك تعال اتبع المسيح ثم حين تسألني كيف أعرض عليك الإنضمام لجماعة و المشاركة في العبادة الكنسية - تلك التي لم يضع نظامها أو يهتم بها المسيح بشخصه بحسب كل ما نعرفه عنه.

و هنا نجد أنفسنا أمام مشكلة أخرى متعلقة، و هي مفهوم العبادة في التعليم المسيحي المعاصر.
و ليكن هذا موضوع التدوينة القادمة.


Sunday, January 6, 2013

في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 2- أزمة الإستمرارية

أهلا بك يا عزيزي.

هل قرأت المقدمة؟ أنصحك بأن تفعل.
قرأتها؟ إذن فلنبدأ.

ككل تعليم، يحتاج التعليم المسيحي أن يرتكز على شيء ما في واقع الحياة ليكون ذات صلة في ذهن المؤمنين -و غيرهم-  بالكون كما يعرفه و يختبره المتلقي شخصيا. هذه الخبرة الشخصية يجب ان ترتبط بصلة وثيقة بمركز هذا التعليم، ليقدر هذا التعليم على الإستمرار في ان يكون مهما و متواقتا و مؤثرا، و إلا يصبح هناك ازمة في إستمرارية هذا التعليم.

دعني أعطيك مثالا:الخطاب السلفي الإسلامي مثلا يركز على قصص السلف و العودة إلى أمجادهم، و بالتالي يحتاج إلى إستحضار أجواء فجر الاسلام في ذهن المتلقي. هذا يخلق أزمة واضحة في الإستمرارية.

ما يعنيه ذلك هو أنه عندما يكون قلب القصة الإسلامية المقدمة هو الدعوة وسط الكفار و المشركين، فإن السرد يفقد أهميته فور فوز المسلمين و هزيمة الكفار. التجربة الروحية هنا تعتمد على وجود حرب بين مجتمع الكفار و الرسول الثائر صاحب الرسالة. بدون ذلك تصير قصص الرسول و الصحابة و المعارك و الفتوحات غير ذات صلة بعقلية المؤمن اليوم، و لا يستطيع أن يتواصل معها.
لذلك فالخطاب السلفي يحتاج و بشدة لوجود الكفار اليوم. ليس ذلك فقط بل و يحتاج ان تكون محاربة الإسلام و المسلمين هي الشغل الشاغل لهؤلاء الكفار - تماما مثل قصص فجر الإسلام. لذلك يتحدثون كثيرا عن مؤامرة الغرب الكافر على الإسلام و اضطهاد المسلمين. الإرتكاز على هذه الخلفية مهم ليظل طرحهم للإسلام ذات صلة بحاضر المؤمن.

بالمثل عندنا في تعليمنا المسيحي المعاصر، عندما أصبح قلب القصة المسيحية هو الصليب و الكفارة بمعنى الإبدال العقوبي تحديدا -أي موت المسيح كعقاب بديل عن عقاب الخطاة- خلقنا بذلك أزمة إستمرارية، حيث فقدت القصة أهميتها بعدما رفع الذنب عن الخاطئ. فالقصة تقول لك ان المسيح مات بديلا عنك لأنك خاطئ مستحقا للموت، و عليك الآن ان تتوب لكي لا تذهب تضحيته هباءا. لكن ماذا لو لم تكن تشعر بانك خاطئ إلى هذه الدرجة؟
أي ان المسيحي اليوم الذي لا يرتكب أي خطايا 'كبيرة' بما يكفي لتوليد إحساس دائم بالذنب يبدأ في الشعور بأن قصة المسيح لا  تخصه، يجلس أمام المعلم في الكنيسة و يفكر هكذا: حسنا، كنت خاطئا -غالبا في أيام مراهقتي و "الخطيئة" غالبا هي بعض الفضول الجنسي- و حمل المسيح عقوبتي بدلا مني، لكني لست خاطئا الآن، ماذا لديك لتقول لي؟

هنا ليظل طرح التعليم المسيحي "مهما" تبدأ الكنيسة في التعظيم من قدر الخطيئة و تأثيرها -بل و خلقها حينما لا تكون موجودة اصلا- و تغذية الشعور بالذنب عند متلقي التعليم، حتى يصل الأمر إلى أن يصير المسيحيين معروفين في العالم كله بثقافة ذنب لا مثيل لها. و ليس ذلك من فراغ، فالذنب ركن أساسي من أركان التعليم المسيحي المعاصر، و البابا تاوضروس مثلا عندما ذهب إلى كنيسة القديسين في الأسكندرية ليعظ، حكى عن المرأة الفاضلة التي تخاف أنها قد تكتشف عندما تقابل خالقها إنها كانت تضيع وقتها بالعمل في المطبخ، و أن يحاسبها على ذلك. حكى ذلك و استرسل في كيف اننا يمكننا ان نضيع وقتنا في العديد من الأشياء التي تبدو عادية كالنوم و الأكل... الخ!

الإحساس بالذنب هنا أساسي -تماما مثل الشعور بالاضهاد عند السلفي- فمنه يستمد التعليم معناه و أهميته و يتحول من قصة قديمة إلى واقع يخص المؤمن شخصيا.

يخلق ذلك مشكلة أخرى متعلقة و هي حتمية الفشل في الحياة الروحية. فبرغم التعليم عن ضرورة التوبة و تغيير الذهن، فإنه يجب على المؤمن ان يفشل في ذلك أو على الأقل ان يكون نجاحه مؤقتا، حتى يستطيع ان ينظر إلى الصليب ثانيا و يمر بالتجربة الروحية المرتبطة بذلك و من ثم يتوب لينال الغفران ثانيا، لكي تستمر التجربة الروحية.

أذكر مثلا عندما كنت حاضرا لدرس للكتاب المقدس في احدى كنائس المهجر و سأل المعلم الحاضرين عن هدف الصوم، و كان الرد التقليدي هو: لكي نتغير.
حسنا، ألا يعني هذا انه إن نجحنا في التغيير لن نحتاج إلى الصوم بعد ذلك؟ إما ذلك أو يكون صيامنا -هذا الصوم و الماضي و القادم- فاشلا!

هل ترى المشكلة يا عزيزي؟ لكي يستمر هذا التعليم كما هو، يجب عليه ان يسير بالمؤمن في دوائر: انت مذنب، يجب ان تتوب و تتغير، انت لا زلت مذنب، يجب ان تتوب و تتغير... الخ.
يساعد هذا التعليم على الإستمرار في بلادنا هوس المجتمع بالجنس و رفضه له في نفس الوقت، مما يوفر للمؤمن مصدر متجدد للإحساس بالذنب. و لكن ذلك لا يكفي للحفاظ على الكثير من الناس داخل الكنيسة -هؤلاء الذين تخطوا هذا الهوس بطريقة أو أخرى- كما يفقد أهميته تماما في الخارج حيث لا يعتبر أغلبية الناس ممارسة الجنس أو التفكير فيه خطيئة تستوجب العقاب.

و لكن إذا كان مركز التعليم المسيحي هو نصرة الحياة على الموت، حيث لا يأخذ الذنب بمفهومنا له دور العدو الأكبر بل الموت كما شرحه أثناسيوس مثلا، و حيث تكون قصة فداء الله هي قصة اتحاده بالبشرية (و مركزها الميلاد) و نصرته لها على الموت و الألم  (و مركز القصة هنا هو القيامة و ليس الصليب، النصرة و ليس الموت) ثم تأليه تلك البشرية بحلول الروح القدس فيها، تصبح رحلتنا معه و مع الكنيسة هي رحلة تأليه بدلا من إعادة تدوير دائمة لمشاعر الذنب و الغفران.

كم كان سيكون أفضل لو في الجنازات تحدثت عظات الكهنة عن القيامة و الرجاء في الحي الذي لا يموت، بدلا من قصر الأيام و ضرورة التعجيل بالتوبة.

كم كان سيكون أفضل لو أن البابا تاوضروس في كنيسة القديسين بالأسكندرية -تلك التي عانت من الموت أكثر من كنائس كثيرة- تحدث عن كسر شوكة الموت و نصرتنا في المسيح عليه، بدلا من الإستثمار في مشاعر الذنب التي لسيدة مسكينة مضطربة.

أليس هذا أفضل كثيرا؟ أليس أكثر إستمرارية و تواقت و أهمية؟ أليس ذو صلة وثيقة باختبارنا للحياة التي نحارب فيها الموت و الألم بشكل دائم؟

أعتقد ذلك، و أعتقد أيضا ان ابتعاد الكثيرين عن الكنيسة يرجع إلى انهم ببساطة فقدوا اهتمامهم بالتعليم، فهو بفكره الحالي غير قادر على ان يظل ذو أهمية و صلة بحياتهم، و بالتالي أصبحت دعوات الكنيسة للتبعية مضجرة و بلا فائدة.

مما يقودنا الى مشكلة التبعية، و تدوينة أخرى قادمة.


في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 1- مقدمة

عزيزي،
لا أعتقد أني كتبت مقدمة لأي شيء على هذه المدونة قبلا، أولا لأني لا أكتب إلا حينما يشغلني موضوع للغاية حتى يبدأ في ازعاجي، و بالتالي يدفعني لإخراجه من بالي بالكتابة عنه، و ثانيا لأن قرائي ليسوا بالكثرة التي تسمح لي بأن أجازف بخسارة إهتمامهم بمقدمات مملة.

لكنني الآن اجد نفسي مضطرا لعمل إستثناء، فبدون مقدمة سوف يسيء الجميع فهم هذه السلسلة. لذلك فباختصار:
  1. هذه سلسلة هدفها طرح بعض الأفكار في الفكر المسيحي الحالي - كما عرفته من الكنائس المصرية بطوائفها و إن كان للكنيسة القبطية الأرثوذكسية نصيب الأسد - و نقدها.
  2. مثل كل التدوينات المسلسلة هنا، غالبا لن أنهي هذه السلسلة، فدائما ما أشعر ان لدي المزيد لأقوله، و دائما ما أتوقف قبل ان أقوله كله، و بالتالي فهذه السلسلة لن تشمل كل أو حتى اغلب المشاكل التي في فكرنا الديني المعاصر.
  3. تلاحظ عزيزي أنني كتبت "فكرنا". نعم، أنا مازلت أنسب نفسي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لذلك فهذه السلسلة ليس هدفها تفكيك العقيدة المسيحية و نقدها لإثبات خطأها. إن كنت جئت لهذه الصفحة بحثا عن مايعضد إيمانك النسبي بعقيدتك الغير مسيحية عن طريق قراءة نقد للمسيحية من "شاهد من أهلها"، فأنا آسف جدا، النمرة غلط.
  4. قد تجد في هذه السلسلة بعض النقد لفكر ديني غير مسيحي أيضا، لن يكون ذلك اصطناعا للحياد أو محاولة للموازنة 'علشان محدش أحسن من حد' إطلاقا. كذلك لا يجب أبدا ان تظن عزيزي أنني اريد ان أوحي لك بأن 'كله زي بعضه'. يكفيني أن تعرف ذلك.
  5. أكتب هذه السلسلة لسبب واحد، أنني أرى لنا ككنيسة إيمان أقوى و أفضل و أكثر مسيحية من ذلك الذي لدينا الآن، و هذه الرؤية واضحة جدا في عقلي و قلبي حتى أنني اجد نفسي مدفوعا دفعا لمحاولة تحقيقها و لو على مستوى ضيق (أي في القريبين لي، و لا أخفي عنك يا عزيزي أنك أحدهم)، و لن يحدث ذلك حتى نهدم المعبد على رؤوسنا أولا.
  6. قد أتحدث عن الكنيسة الأولى و الآباء أحيانا في هذه السلسلة. لكن إن كنت لا تعرفني جيدا بعد يا عزيزي، فأنا لست آبائي، أي أنني لا  أظن ان الكنيسة يجب ان تعود إلى قوانين و فكر الآباء حتى نعود كلنا إلى أي نوع من الماضي المجيد. أنا فقط أرى الآباء كأحد المصادر المهمة التي تقدر أن تكشف لنا اخطائنا الحالية و أحيانا قد تنجح في ان تقدم لها بعض الحلول. أعتقد أن مستقبلنا يجب ان يكون عالما بماضيه و مستمدا للحكمة منه، و لكنه متخطي له و متقدم فكريا و روحيا عنه كثيرا، فحتى إذا كنا نقدر على العودة إلى الماضي، فلا  أظن أنه ينبغي علينا ان نريد ذلك.
تكفينا كلينا هذه المقدمات... فلنبدأ