Wednesday, May 29, 2013

التجسد و شركتنا في الحياة الإلهية (3) - مقتطفات آبائية قصيرة


إقرأ ما سبق هنا و هنا

تشاؤم اوغسطينوس في مقابل الرؤية الكتابية لايريناوس
أوغسطينوس و إيريناوس قرآ نفس فصول سفر التكوين 2-3، ولكن بالنسبة لأوغسطينوس الخطيئة الأصلية كانت كارثة أصلحها جزئيا فقط المسيح. في حين أنه بالنسبة لإيريناوس فالخطيئة كانت أشبه بسقوط طفل لأول مرة و هو يتعلم المشي . يمكننا المقابلة بين أراء الإثنين كما يلي:
قرأ أوغسطينوس القصة (سفر التكوين) بطريقة أكثر حرفية بكثير (من إيريناوس). كانت قصة خطيئة آدم وعقابه وموته بالنسبة له قصة من الماضي، ولكن جميع البشر، بما أنهم ذرية آدم، كانوا منغمسين في ذلك الماضي. على الرغم من خطيئة آدم لها عواقب مستمرة و مروعة لجميع نسل آدم، ليس هناك شيء يقدر ان يفعله هؤلاء الأحفاد حيال ذلك. وقعت كل الأحداث في الفصل الأول من قصة البشرية وكل الفصول اللاحقة تتحدث عن التطور الحتمي لعواقب هذه الأحداث.
بالنسبة لأوغسطينوس فإن عمل آدم حدد مصير الجنس البشري. ليس الأمر كذلك عند إيريناوس الذي عاش أقرب إلى زمن المسيح والرسل. بالنسبة لإيريناوس، المسيح يأخذ في نفسه كل الجنس البشري، بما في ذلك آدم، ويجعل عمله الخلاصي يشمل الجنس البشري بأكمله.
هذا هو أقوى إختلاف في فهم إيريناوس، لأن بالنسبة له تاريخ البشرية وتاريخ الخلاص هما نفس الشيء. هذا المسار قد يتلوى وينعطف في العديد من المسالك المخلتفة، ولكن ليس هناك اختلاف جذري ... كان مصير الجنس البشري مقدرا في آدم بالفعل، ولكن هذا القدر هو أن يصير على صورة الله وشبهه.



الفردوس والخطيئة
عمل ايريناوس المدعو الدليل على التبشير الرسولي يبدأ بنسخة ملخصة لكنها رائعة وجذابة لقصة الخلق والسقوط. الترجمة الإنجليزية (التي ترجم منها هذا النص إلى العربية) خاصة بجي بي سميث إس جي (J.P. Smith, S.J):

"ولكن الإنسان صنعه هو  بيديه آخذا من أنقى وأجود الثرى  و مزج قدرته هو ذاته بحساب و حكمة مع التربة ، لأنه أعطى له هيكل رسم شكله الخاص حتى أن المنظر المرئي له أيضا ينبغي أن يكون إلهي - إذ أنه على صورة الله تشكل الإنسان ووضع على وجه الأرض - و حتى ما  يأتي الى الحياة نفخ في وجهه نسمة الحياة، حتى أن الإنسان أصبح مثل الله في الإلهام كما في الهيكل ..." (الدليل، 11).

لاحظ عناية الله الخاصة في تشكيل الجسم البشري والروح: جعل الجسم "إلهي" في المظهر، والروح "إلهي" في الالهام. عند إيريناوس، كل ما يفعله الله جميل. شكل الجسم نفسه هو "إلهي" كما لاحظ معجبا بجماله. اكثر من ذلك فالروح إلهية. هذا هو نفس الحياة التي نفخه الله في الجسد. النفس هو صورة لله. وهو دائم، خالد، يعيش إلى الأبد (راجع الثاني- 34). وهذه الحياة الموهوبة  الفكر والإرادة الحرة لا تتوقف عن العيش متى جلبها الله إلى حيز الوجود. صورة الله مثل الله من حيث أنها لا نهاية لها وسوف تعيش الى الأبد. لكنها ليست مثل الله من حيث أن الله ليس له بداية، ولكن الروح  لها بداية.
"الشبه" لله مطبوع في حياة الإنسان، ومع ذلك، هو ليس جوهرها. هو هبة و يمكن القضاء عليها من الروح عن طريق الخطيئة. ولكن حتى بعد الخطيئة فالروح القدس يمكنه إعادة الشبه مرة أخرى (راجع الخامس، 6، 1). من الواضح أن إيريناوس كان معلما ماهرا حيث انه يوضح حقيقة أساسية لل المسيحيين الجدد الذين كانوا يعانون من أخطاء الغنوصية: أن الخطيئة تؤثر سلبا على الجمال الروحي للنفس ويدمر صورة الله التي تبنيها النعمة فيها. ولكن المرء لا يفقد كل شيء متى يذنب، لأن الروح القدس يمكنه أن يعيد المرء إلى المجد الأصلي.
النعمة يمكنها أن تدخل في الروح و يمكنها أن تتركها بسبب الخطيئة ثم تدخل مجددا. "الشبه" هو نفس الله الذي أعطاه الروح القدس: "الروح القدس شكل الإنسان على شبه الله" (الدليل رقم 5، انظر سميث ص 50). عندما يفقد الإنسان الصورة من خلال الخطيئة، يمكن للروح القدس إعادتها مرة أخرى.

كلمة الله يمشي مع آدم في الجنة
إيريناوس يرسم صورة شاعرية للفردوس البكر. و قد يكون استخدم مثال تعليمي متداول في ذلك الوقت. كانت الحياة في الفردوس جميلة قبل الخطيئة. الله كان قد أعد الحديقة لآدم، و الحيوانات فيها كانت قد كبرت بالفعل. و لكن آدم وحواء كانا لا يزالان أطفال. إيريناوس عادة ما يقول أن "كلمة الله" هو الذي يمشي في الفردوس مع والدينا الأولين، "مشيرا" إلى تجسده في المستقبل.
و كم كانت جميلة جدا و طيبة تلك الحديقة، و كلمة الله كان يمشي باستمرار فيها؛ كان يتجول ويتحدث مع الإنسان مشيرا إلى ما كان سيأتي مستقبلا، وكيف انه سيصبح رفيق الإنسان، و سيتحدث معه ، ويأتي في وسط البشر معلما اياهم  العدالة (الدليل، 12).

Saturday, May 25, 2013

التجسد و شركتنا في الحياة الإلهية (2) - مقتطفات آبائية قصيرة


إقرأ ما سبق هنا.


القديس إيريناوس، مؤسس اللاهوت المسيحي

جاء إيريناوس من سميرنا الناطقة باليونانية في آسيا الصغرى، حيث ورث تعليم اللاهوت الشرقي بشأن الخطيئة، بقدر ما كان قد وضع هذا التعليم اللاهوتي. في شبابه تعلم العقيدة عند قدمي أسقفه، الشهيد مستقبلا القديس بوليكاربوس (c.69-c.155). بالكاد مائة كيلومتر من سميرنا كانت أفسس، و يقال انها كانت منزل مريم والقديس يوحنا. لم يكن يوحنا أبدا بعيدا عن مريم، بوليكاربوس لم يكن أبدا بعيدا عن يوحنا، وإيريناوس جلس عند قدمي بوليكاربوس لتعلم التقليد الرسولي عند منبعه الأصلي. يكتب عن ذلك إلى القسيس الروماني فلورينوس فيقول:
"لذا و عندما كنت لا أزال صبيا، عرفتك أنت (فلورينوس) في آسيا السفلى، في منزل بوليكاربوس ... أتذكر أحداث تلك الأيام أكثر وضوحا من تلك التي حدثت مؤخرا ... كيف انه (بوليكاربوس) جلس وتجادل ، ... كيف حكى عن حواره مع يوحنا ومع الآخرين الذين رأوا الرب، وكيف كان يتذكر كلماتهم، وما هي الأمور المختصة بالرب التي كان قد سمعها منهم، وكيف أن بوليكاربوس تلقى كل ذلك من شهود العيان على كلمة الحياة، وذكر كل الأمور بالاتفاق مع الكتب المقدسة. لقد استمعت بحماس حتى آنذاك إلى هذه الأشياء ... واحتفظت بملاحظات عنهم، ليس على ورق، ولكن في قلبي، و بنعمة الله دائما ما أقوم بالتأمل فيهم." (يوسابيوس. تاريخ الكنيسة 05:20، 5-7؛ الترجمة ليوهانس كواستن، الآبائيات أ ، 287).
ولذلك فشهادة إيريناوس على الإنجيل لا تقدر بثمن. انتقل من سميرنا إلى فرنسا حيث خدم كاهنا في ليون حيث أوقرته رعيته للغاية. و بينما كان مسافرا في روما في 177، شب إضطهاد في ليون خلاله استشهد أسقفها، القديس بوثينوس. عند عودة إيريناوس جعلوه أسقف ليون في حوالي العام 178. من كتاباته نحصل على عرض متميز للتعاليم الخاصة بالخطيئة الأصلية التي كان يتم تداولها في الكنيسة الأولى.
بقى عدد قليل من خطابات إيريناوس خلال القرون، ولكن العملين الأعظم اللذان دعي "مؤسس اللاهوت المسيحي" بفضلهم هم كتاب "الدليل على التبشير الرسولي" (سنشير إليه من الآن فصاعدا باسم "الدليل") ومجموعة من خمسة مجلدات تسمى "ضد الهرطقات" (سنشير إليه من الآن برقم الكتاب و الفصل والفقرة، على سبيل المثال: الثالث 22،8). كتب باللغة اليونانية، ولكن يبقى القليل من النسخ الأصلية. حفظ كتاب "الدليل" في ترجمة بالأرمينية وضد. الهرطقات في اللاتينية (راجع يوهانس كواستن الآبائيات أ ، 290). وكان هذا العمل الأخير مقنعا بشدة حتى أنه عمليا يعتبر قدم رصاصة الرحمة إلى البدع الغنوصية التي كانت تختمر و تنتشر وتحظى بشعبية كبيرة بين هواة المسيحيين في جزء كبير من حوض البحر الأبيض المتوسط في عصره - بشكل ليس مختلفا كثيرا عن خميرة العصر الجديد التي تعتمل في أمريكا اليوم.
كان لإيريناوس اعتزازا خاص بإعطاءه شاهدا على التقليد كما سلمه الرسل (راجع الثالث 3 3). يكتب بجاذبية، وأحيانا بالفكاهة، ولكن نادرا ما يكتب ببلاغة الكلام و يرجو منا ان نتفهم ذلك.
هذا الأب الأولى في الكنيسة يقتبس من الأناجيل والرسائل العهد القديم والجديد لبناء حججه. بينما لم يكن قد تم بعد وضع الترتيب الشرعي للعهد الجديد، ولكنه يستشهد بحرية كما من الكتابات المقدسة من كتب من شأنها أن تصبح في وقت لاحق جزءا رسميا من كتب العهد الجديد.





المسيح، رأس الخليقة و جامع الكون إلى الله. (Re-Capitulator of the Cosmos)

دور المسيح كرأس الجنس البشري و جامعه إلى الله من خلال التجسد والفداء يشكل جوهر التعليم اللاهوتي الخاص بإيريناوس. قديس ليون يعرف الشخص الثاني في الثالوث القدوس باعتباره هو الذي يتعامل مع البشر في العهد القديم حتى قبل تجسده. بل بالفعل إن ابن الله ذاته هو من صمم الكون بشكل خلاق، الذي كيفه ليكون بيئة تليق لسكناه في المستقبل. هذا الفكر يتفق مع الرسالة إلى العبرانيين، حيث يتناول الآب هذا الشاهد شديد الأهمية على المسيح بوصفه المؤسس للكون: "انت، يا رب، قد أسست الأرض في البداية، والسماوات هم عمل يديك" (عب 1 : 10) القديس إيريناوس يتبع هذا بفكرة أن المسيح ليس فقط خالق الكون، وإنما هو أيضا سبب وجوده، و السبب في خلقته في المقام الأول. جميع خطوط الكون بالتالي تركز على المسيح. المسيح ليس فكرة لاحقة ولدت في عقل الله كرد فعل على خطيئة آدم، بل على العكس، المسيح هو الألف والياء للكون في المقام الأول؛ و تم وضع آدم في الخطط الكونية بوصفه البوابة الإستراتيجية التي من خلالها سيدخل المسيح:
"و يجمع (recapitulates) في نفسه كل الأمم التي فرقت منذ آدم، وجميع اللغات وأجيال البشر، بما فيهم آدم نفسه. ولهذا السبب يدعو القديس بولس آدم "نوع من الواحد الذي كان سيأتي" (راجع روم 5:14)، لأن الكلمة صانع كل شيء، صنع  في آدم رسم أولي لما، في خطة الله ، كان سيأتي إلى الجنس البشري من خلال ابن الله. رتب الله الأمور بحيث يكون الإنسان الأول حيوان بالطبيعة و يخلص من قبل الإنسان الروحي. و لأن المخلص موجود بالفعل، كان ينبغي أن يأتي بذاك الذي سوف يخلص إلى حيز الوجود، حتى أن المخلص لا يذهب سدى" (ضد الهرطقات الثالث، 22،3؛. الترجمة بواسطة جون ساوارد، 64).
لاحظ هذه الجملة الأخيرة الفريدة المحملة بالمعنى . فإنها تجعل آدم "رجل الجبهة" الذي يمهد الطريق للحدث الرئيسي الذي هو وصول المسيح. إيريناوس يقدم المسيح بوصفه الشخصية البارزة والمهيمنة التي هي محور التخطيط الإلهي. المسيح، البانتوكراتور الضابط الكل، هو النقطة المحورية في تصميم الله للكون الذي سيتم خلقه، والشخصية المركزية التي لأجلها يقيس الله رسم الكون. انه يتطلع الى المسيح بوصفه حجر الزاوية للكون، في حين أن آدم يدخل إليه بشكل ثانوي في التسلسل المنطقي اتباع المسيح،  "حتى أن المخلص لا يذهب سدى." يتم خلق آدم ليقدم للمسيح قضية تستحق تفعيل محبته العظيمة. في اللاتينية تقرأ هذه الجملة الاستثنائية هكذا:
Cum enim praeexisteret salvans, opportebat et quod salvaretur fieri, uti non vacuum si
salvans.
يتم إدخال آدم ليصبح المستفيد من عمل الحب الذي للمسيح.

هنا فكر إيريناوس يختلف عن أوغسطينوس وتوماس الأكويني. إيريناوس يرى المسيح قبل أن يجد آدم. المسيح هو الملك الكوني المهيمن، وآدم هو البيدق الخادم. في حين يرى أوغسطينوس وتوماس آدم قبل أن يروا المسيح. آدم ، بواسطة ذنبه، يحدث تغييرا في خطط الله الأصلية ، أي إرسال المسيح إلى الكون. توماس يميل إلى الاتفاق مع أوغسطينوس الذي يقتبس عنه: "أوغسطينوس يقول (De Verb. Apost.8,2) . '... لذلك إذا لم يكن الإنسان قد أخطأ، لما أتى ابن الإنسان" الخلاصة اللاهوتية الكتاب الثالث، 1، 3). وبعبارة أخرى، الله قضى بتجسد المسيح كاستجابة لخطيئة آدم، لإنقاذ الوضع بعد أن أفسد آدم خطة الله الأولى عن طريق ارتكاب الخطيئة الأصلية. ليس كذلك إيريناوس، الذي يقدم المسيح على أنه الشخصية السائدة بل و سبب وجود جميع الخليقة. آدم أمر ثانوي في خطط الله، بصفته ذاك الذي يخلقه الله للمسيح لكي يقدسه. الله، كما يحاجج إيريناوس، كان قد كتب وظيفة المسيح بوصفه المحور المركزي للكون قبل اتخاذ الخطيئة في الحسابات الإلهية. دونس سكوتس (رحل عام 1308) طور فيما بعد هذا الفكر الرائع لإيريناوس بشكل اكثر اكتمالا.


و كلمة salvans (ذاك الذي يخلص) التي يستخدمها إيريناوس لتحديد دور المسيح لا يقتصر مغزاها فقط على المعنى الضيق للمخلص الذي يدفع مجرد فدية لإنقاذ الخطاة. كلمة المخلص تعني لإيريناوس، وإلى الآباء اليونانيين عادة، الدور الأكثر شمولاً لذاك الذي يقدس. المقدس (بكسر الدال) يرفع الإنسان الطبيعي إلى حالة أعظم من الطبيعة في الأصل، و كذلك بعد السقوط. المسيح، فى رؤية إيريناوس، رفع آدم إلى حالة من القداسة والعدالة قبل السقوط، و أيضا رده بعد السقوط. إنه يعتبر أكثر من مجرد عامل تصليح يرمم منتج تالف. بل هو مهندس معماري يبني البنية في الأصل وفقا لخطة الله الأولية، ومن ثم يرممها بشكل أكثر روعة عقب حادث آدم المؤقت.

Friday, May 24, 2013

التجسد و شركتنا في الحياة الإلهية (1) - مقتطفات آبائية قصيرة


ملحوظة: هذه محاولة متواضعة جدا لترجمة ملف ارسله لي أحد الأصدقاء قديما. سأنشر الترجمة في شكل سلسلة بدلا من دفعة واحدة لعلها تكون اسهل في الإستيعاب.
أرجو و إن كانت الترجمة ضعيفة ان تصل إلى القارئ حرارة الايمان وراء الكلمات.

صلاة ليوحنا الأكبر:
أنت الذي مخفي ومخبأ داخلي
اكشف داخلي
السر المخفي الخاص بك؛
و اوضح لي
جمالك الذي هو في داخلي،
يا أيها الذي قد بناني 
كمعبد لك تسكن في،
اجعل سحابة من مجدك
تلقي بظلالها داخل المعبد الخاص بك،
حتى يمكن لخدام ملجأك
 ان يصرخون بالحب لك: 
"قدوس"
ككلمة تحرق بالنار والروح، حاملة تأثر عظيم ممزوج مع
العجب والدهشة، ناشطة كحركة حية
من قبل قوة كيانك.


الرؤية المنسية للقديس إيريناوس

كتابات القديس إيريناوس (c.125-c.202) بشأن الخطيئة الأصلية متفائلة بشكل حازم و متباينة بشكل ملحوظ عن تلك الخاصة بالقديس أوغسطينوس (354-430). وهو أيضا أقرب زمنيا للوضع النهائي للتقليد الرسولي: علم ​​السيد المسيح الرسل الذين علموا بوليكاربوس الذي علم إيريناوس. بالتالي فنحن لدينا في كتابات القديس إيريناوس شاهد عيان على تقليد الرسل في وقت مبكر جدا .
لم يكن إيريناوس ببلاغة أغسطينوس. فهو يطلب من قرائه العذر و يشرح أنه ولد في سميرنا الناطقة باليونانية في آسيا الصغرى لكنه لم يعيش ويعمل في المجال الأكاديمي. قضى حياته في ليون البلد الحدودية حيث كان يتحدث مع الفلاحين بلغتهم الأم. ولكننا سوف نشاهد أن أفكاره سامية و قلبه دافئ و ذاكرته حادة وتعليمه مدهش. له خمسة مجلدات "Haereses Adversus" مكتوبة باللغة اليونانية واجهت العلم الزائف الذي للغنوصيين في عصره وسمرتهم إلى الحائط.

إيريناوس وأغسطينوس كلاهما اتفقا على أن آدم أخطأ وخسر الهبة الأولي التي هي الشركة مع الله و أن كل البشر ماتوا كنتيجة لخطيئة آدم. ولكن في حين أن أغسطينوس يرى أن خطط الله الأصلية قد أحبطتها الخطيئة الأصلية فإن  إيريناوس يرى نفس الخطيئة باعتبارها خطوة تكاد تكون ضرورية لتعليم الجنس البشري. إيريناوس يرى أن الله وضع خططه مع وضع الخطيئة في الحسبان بالفعل منذ البداية. قرر أنه سوف يخلق الانسان حرا. توقع الإثم ثم جهز الإحتياطات وفقا لذلك. سيساعد الإنسان على استخدام هذه الحرية بشكل صحيح - و الخطيئة هنا هي نقطة انطلاق لتسهيل عملية التعلم. المسيح سيأتي على استعداد تام للتعامل مع الوضع - الذي هو  سقوط الجنس البشري - ثم يعيد انجماع الجنس البشري الساقط تحت رأس واحد هو المسيح (recapitulation) و يقوده إلى الآب.

أما أغسطينوس فسيبرز المسيح كفكرة لاحقة - كخطة ثانية بعدما فشلت الأولى. يتم إرسال المسيح إلى العالم كما مصلح، لرأب الصدع الناجم عن الكارثة التي تسبب فيها آدم. وحتى مع ذلك، أغسطينوس يضعنا  في عالم لم يتم إصلاحه تماما من قبل المسيح. إنه عالم، كما يصر، فيه الله لا يزال يعاقبنا على آثام آدم. يجعل الأمر يبدو كما لو كنا نعيش في ضواحي تشيرنوبيل بعد انصهار قلب المفاعل النووي.

(يتبع...)

Friday, January 18, 2013

في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 3- حيلة التبعية

أرحب بك مرة أخرى يا عزيزي، و أذكرك بضرورة قراءة المقدمة.
أما إن كنت قد قرأتها قبل ذلك، فلا داعي لإضاعة المزيد من الوقت و لندخل في الموضوع.

في المرة السابقة قلت لك اني أرى ان اتجاه الفكر المسيحي الحالي يقود المؤمن في دوائر من الذنب و الغفران، و ان ذلك نتيجة مباشرة لتمحور ذلك الفكر حول موت المسيح -و بالتحديد فكرة موته كعقوبة استحققتها أنت- بدلا من حياته و قيامته. أدى ذلك إلى أن دعوات الكنيسة للتبعية أصبحت مضجرة للمستمع.

هنا اعتقد أننا بحاجة لأن نتذكر لماذا تدعوا الكنيسة الناس للتبعية أصلا و لمن تدعوهم.
إجابة هذا السؤال تبدو سهلة: الكنيسة تدعو الناس ليتبعوا المسيح. 
اللوحة المعلقة امام الكنيسة في الصورة هي مثال لتلك الدعوة، يقول لك الملصق أنه مازال من الحكمة ان تتبع المسيح، و الصورة للثلاثة مجوس "حكماء الشرق". و أعتقد ان المقصود هو دعوتك للحضور إلى الكنيسة. (فهذا هو الهدف من الرسائل التي تعلق في هذه اللوحة)

المشكلة هنا هي أن التدقيق في معنى تلك الدعوة يكشف إنها دعوة فارغة من المضمون، و بالتالي فهي تتحول إلى عملية "طعم و تبديل" (نوع من الاحتيال) سواء عن أو بدون قصد.

دعني اشرح لك ما أقصد.
عندما كان المسيح يجول مدن إسرائيل كان بعض الناس يتبعونه، بعضهم دعي للتبعية مباشرة مثل التلاميذ و البعض الآخر ذهب وراءه لأنه كان يشفي المرضى و يطعم الجياع، و البعض الآخر لأنهم كانوا يبحثون عن من يقودهم ضد الإحتلال - هذا هو ما تعلمناه في مدارس الأحد.
و لكن بغض النظر عن السبب، فهناك بعض الأشياء المشتركة بين هؤلاء الأتباع. فأولا هم كانوا يعرفون أنهم يتبعون رجلا رحالا ليس له منزلا ثابتا.

هذا هو أول فارق هام بين دعوة الكنيسة للناس الآن و دعوة المسيح لتلاميذه مثلا.
 فالكنيسة لا تدعوا الناس إلى الترحال. إنها لا تدعوهم للخروج من دائرة راحتهم و إلى عالم أكبر و أكثر خطرا، بل على العكس تماما، الكنيسة تدعوا الناس إلى الدخول في جماعة و التردد على مكان اجتماعها -الثابت- بانتظام.

الكنيسة تدعوك للإنتماء يا عزيزي.
و إذا أردنا الدقة فالكنيسة تقدم لك بالتفصيل شيئين: مجتمع تنضم إليه و إنتماء تنسب اليه نفسك (أن تكون مسيحيا).

المشكلة المبدئية هنا هي ان برغم ان هذه الدعوة في ظاهرها عامة، ففي الواقع محاولة الغريب للإنضمام لذلك المجتمع المسمى بالكنيسة تكشف له أنه بحاجة إلى أن يتطابق أولا مع معاييرهم للفضيلة و المظهر الملائم بل و يكون من نفس المستوى الإجتماعي لباقي الأعضاء. (أنظر أين يذهب البسطاء ماديا في الكنائس الغنية، فقد وصل الأمر ببعض الكنائس لعمل إجتماعات مختلفة بيحسب انتماؤك للطبقة العليا أو الوسطى أو إلى "اخوة الرب").
هذا الإحتياج للتطابق أصبح بمثابة هوس داخل الكنائس برغم ان الجمع الذي كان المسيح يجلس في وسطه لم يكن كذلك. و لكن لا عجب في ذلك، فعندما يكون الهدف الأسمى للكنيسة هو ان ينتمي اليها أعضاء أكثر فمن الطبيعي ان تسعى الجماعة -أو من يظل فيها- للتقليل من مظاهر الإختلاف ليصبح هذا الإنتماء أسهل و تصير الجماعة اكثر تلاحما.

هذا هو أول اختلاف نوعي واضح، ان الكنيسة تدعو إلى الإنضمام، تدعو الناس للتطابق بينما لم يهتم المسيح بذلك اطلاقا. الكنيسة تدعو الناس "للدخول" بينما المسيح دعى الناس "للخروج".
ثاني إختلاف هو أنه بينما كان معاصري المسيح يتبعونه شخصيا، فالمؤمن اليوم مدعو لتبعية من لا يرى. و لنتفق من الآن على أنه من المستحيل عمليا ان تتبع شخصا غير مرئيا، خاصة عندما لا يكون قد ترك "لأتباعه" خطوات مفصلة للأسلوب الذي يعتقد أنهم يجب ان يعيشوا به حياتهم.
فالإنجيل و إن كان فيه بعض التعاليم الروحية و الفلسفية فهو ليس وصفيا بما يكفي ليؤدي تلك المهمة أي أن يكون دليل إستخدام للحياة. و إن كان ذلك لم يمنع بعض المعلمين في الكنيسة ان يقولوا ذلك بالظبط، متجاهلين حتى الأسباب المعروفة لكتابة كل سفر (كالرسالة و البشارة و التأريخ و الشعر) و أنه لا يوجد في الكتابات المقدسة كلها كتاب واحد يقول عن نفسه أنه سيخبر القارئ كيف يعيش حياته - بعكس الكتب المقدسة في ديانات أخرى كالإسلام مثلا.

و بما ان الأتباع هنا لا يرون سيدهم، وليس لديهم توجيهات شاملة كتبها هو، تضطر الكنيسة لعرض شخص بديل -مرئي- عليك لكي تتبعه: المعلم أو الكاهن أو الأسقف أو البطريرك.

المشكلة البديهية التي ينتجها هذا و نعلم أننا عانينا منها كثيرا هي النظر إلى الاكليروس على أنهم وكلاء المسيح و إعتبار البطريرك "رمز ديني" و إعتبار أي نقد موجه لهم و له هو نقد للمسيحية و هجوم على الكنيسة. و لن أضيع وقتك عزيزي في تفصيل كيف نخر هذا في عظام الكنيسة حتى أعيى الجسد تماما، فأنا متأكد أنك قد سمعت ما يكفي عن ذلك.

و لكن المشكلة الأكبر و الأعم الناتجة عن التعليم بأهمية التبعية هي أن الفكر المسيحي المعاصر صار قائما على التمييز بين الأتباع و غيرهم.

و لنرجع للملصق الذي يقول لك أنه مازال من الحكمة ان تتبع المسيح مثل المجوس و لنتوقف هنا لحظة.
هل تبع المجوس المسيح فعلا؟
قصة الميلاد تقول لنا ان المجوس ظلوا يتبعون النجم حتى وصلوا إلى بيت لحم، ثم قدموا هداياهم للملك الطفل، ثم عادوا إلى بلادهم.
عادوا و هم مازالوا مجوسا...
لقاء عابر مع الملك، ثم رحلوا. قصة الميلاد كلها في الحقيقة هي عبارة عن لقاءات عابرة في ظروف عابرة (الملائكة و الرعاة، المجوس و هداياهم، الميلاد في المذود).
و بجانب قصة الميلاد الذي كان فيها المسيح طفلا لا يمكنه أن يقود أتباع، فإن كل لقاءات المسيح بعد ذلك هي مع شخصيات نسمع عنها مرة أو مرتين على الأكثر، و هذا شيئا متوقعا فكما علمونا فالمسيح كان رحالا "يجول يصنع خيرا".
و لكن ألا يوحي ذلك بأن تلك اللقاءات العابرة هي ذات أهمية كبيرة؟
بمعنى آخر، إذا كانت قصة الإنجيل عن كيف أنشأ المسيح كنائس في أماكن عدة و كيف انضم اليها الناس و كيف قامت الحرب بين اليهود في ذلك الزمن و أتباع الدين الجديد (مثل قصة نشأة الاسلام مثلا)، إذا كانت تلك هي القصة كان سيكون من الطبيعي و المنطقي أن يهتم التعليم المسيحي بدعوة الناس للتبعية و تمييز الأتباع عن الآخرين.
و لكن القصة ليست كذلك، القصة في الحقيقة تعطي اهمية كبيرة جدا للقاءات عابرة بينما لا تحتوي على الكثير عن إنشاء كنيسة أو تكوين جماعة. لم يكن للمسيح مقر قيادة يذهب اليه الناس و يدير عمليات "التبشير" و شؤون الأعضاء. حتى سفر أعمال الرسل يحكي عن رحلات بولس بدلا من ان يحكي عن أحوال الكنائس التي نشأت في المدن التي بشر فيها.

و لا أرى أن المسيح ذاته كان مهتما بفكرة التبعية. فالمسيح لم يكن مهتما بزيادة عدد أتباعه، بل بالعكس، و لم يكن مهتما بحكر اسمه و عمله على تلاميذه فقط. بل و في لقاءه مع بيلاطس حينما كان يواجه حكم الموت كان رده قاطعا بأنه ليس له أتباع من هذا النوع أي أناس يدينون له بالولاء.
و لكن ماذا عن أولئك الذين دعاهم المسيح ليتبعوه؟ أنا أرى ان هؤلاء كانوا مدعوون للطواف على القرى و البلاد لينشروا البشارة بالملكوت (و سنتطرق لذلك في تدوينة أخرى) و يشهدوا أمام حكام و ملوك. هذا قد يفسر الكثير من ما قاله المسيح عن من يضع يده على المحراث و ينظر إلى الوراء أو أن تدع الموتى يدفنون موتاهم و غير ذلك من التعليم النضالي المتشدد. أي أن هؤلاء كانوا مدعوون لعمل محدد بالغ الصعوبة و يحتاج إلى إستعداد للشهادة و لذلك كان يجب عليهم ان يكونوا 'مستبيعين'، و كما قلت فهذه الدعوة لم تكن عامة، فإنه في نفس القطعة المذكورة يثني آخر عن إتباعه.

لا ارى ان هذا غريبا على الإطلاق، فالمسيح لم يحاول أن يؤسس ديانة أو جماعة. بل بالأحرى فإيماني هو أن مهمة المسيح هي إحداث تغيير أنطولوجي في البشرية كلها و تغيير علاقتها بالكون و صانعه.
أين مقومات التبعية الدينية في حياة و تعاليم المسيح من نصوص وصفية حاكمة و هيئة إدارية هيكلية و مركز جغرافي للدعوة أو للتجمع الديني و نظام عبادة؟
أين تأتي التبعية في تلك الصورة؟ أو بتعبير أدق اين تأتي التبعية الواعية الاختيارية التي يدعي التعليم المسيحي الآن أنها هي باب الملكوت؟ و إذا كانت تلك التبعية شرطا لإحداث التغيير الذي أتى به المسيح فلماذا لم يهتم هو بها؟

ربما يجب علينا ان نكف عن النظر إلى العالم على أنه عبارة عن "معسكرين" ثابتين أحدهم تابع للمسيح و الآخر ضده، احدهم هو كنيسة و الآخر هو باقي العالم.
لا اعني بالتأكيد أنه لا يوجد نوع من الصراع في العالم بين قوى الموت و العدم و بين الحياة و النور، فقط أعني أن الكنيسة كمؤسسة ليست أحد هذين المعسكرين، و ليس من المفروض ان نعتبرها كذلك. الصراع أعقد و أكثر حميمية من ان يكون بين من يدين بالولاء لإسم ما و من لا يدينون به.

و ربما لا تكون التبعية شيئا مهما أصلا.

هذه مشكلة طبعا، خاصة عندما تكون تبعية المسيح هي الدعوة الأساسية للفكر المسيحي الحالي. تعرض الكنيسة عليك تبعية المسيح ثم عندما "تشتري" منها ذلك تعطيك تبعية الكنيسة التي تختلف تماما. هذا هو ما اقصده بحيلة الطعم و التبديل: أقول لك تعال اتبع المسيح ثم حين تسألني كيف أعرض عليك الإنضمام لجماعة و المشاركة في العبادة الكنسية - تلك التي لم يضع نظامها أو يهتم بها المسيح بشخصه بحسب كل ما نعرفه عنه.

و هنا نجد أنفسنا أمام مشكلة أخرى متعلقة، و هي مفهوم العبادة في التعليم المسيحي المعاصر.
و ليكن هذا موضوع التدوينة القادمة.


Sunday, January 6, 2013

في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 2- أزمة الإستمرارية

أهلا بك يا عزيزي.

هل قرأت المقدمة؟ أنصحك بأن تفعل.
قرأتها؟ إذن فلنبدأ.

ككل تعليم، يحتاج التعليم المسيحي أن يرتكز على شيء ما في واقع الحياة ليكون ذات صلة في ذهن المؤمنين -و غيرهم-  بالكون كما يعرفه و يختبره المتلقي شخصيا. هذه الخبرة الشخصية يجب ان ترتبط بصلة وثيقة بمركز هذا التعليم، ليقدر هذا التعليم على الإستمرار في ان يكون مهما و متواقتا و مؤثرا، و إلا يصبح هناك ازمة في إستمرارية هذا التعليم.

دعني أعطيك مثالا:الخطاب السلفي الإسلامي مثلا يركز على قصص السلف و العودة إلى أمجادهم، و بالتالي يحتاج إلى إستحضار أجواء فجر الاسلام في ذهن المتلقي. هذا يخلق أزمة واضحة في الإستمرارية.

ما يعنيه ذلك هو أنه عندما يكون قلب القصة الإسلامية المقدمة هو الدعوة وسط الكفار و المشركين، فإن السرد يفقد أهميته فور فوز المسلمين و هزيمة الكفار. التجربة الروحية هنا تعتمد على وجود حرب بين مجتمع الكفار و الرسول الثائر صاحب الرسالة. بدون ذلك تصير قصص الرسول و الصحابة و المعارك و الفتوحات غير ذات صلة بعقلية المؤمن اليوم، و لا يستطيع أن يتواصل معها.
لذلك فالخطاب السلفي يحتاج و بشدة لوجود الكفار اليوم. ليس ذلك فقط بل و يحتاج ان تكون محاربة الإسلام و المسلمين هي الشغل الشاغل لهؤلاء الكفار - تماما مثل قصص فجر الإسلام. لذلك يتحدثون كثيرا عن مؤامرة الغرب الكافر على الإسلام و اضطهاد المسلمين. الإرتكاز على هذه الخلفية مهم ليظل طرحهم للإسلام ذات صلة بحاضر المؤمن.

بالمثل عندنا في تعليمنا المسيحي المعاصر، عندما أصبح قلب القصة المسيحية هو الصليب و الكفارة بمعنى الإبدال العقوبي تحديدا -أي موت المسيح كعقاب بديل عن عقاب الخطاة- خلقنا بذلك أزمة إستمرارية، حيث فقدت القصة أهميتها بعدما رفع الذنب عن الخاطئ. فالقصة تقول لك ان المسيح مات بديلا عنك لأنك خاطئ مستحقا للموت، و عليك الآن ان تتوب لكي لا تذهب تضحيته هباءا. لكن ماذا لو لم تكن تشعر بانك خاطئ إلى هذه الدرجة؟
أي ان المسيحي اليوم الذي لا يرتكب أي خطايا 'كبيرة' بما يكفي لتوليد إحساس دائم بالذنب يبدأ في الشعور بأن قصة المسيح لا  تخصه، يجلس أمام المعلم في الكنيسة و يفكر هكذا: حسنا، كنت خاطئا -غالبا في أيام مراهقتي و "الخطيئة" غالبا هي بعض الفضول الجنسي- و حمل المسيح عقوبتي بدلا مني، لكني لست خاطئا الآن، ماذا لديك لتقول لي؟

هنا ليظل طرح التعليم المسيحي "مهما" تبدأ الكنيسة في التعظيم من قدر الخطيئة و تأثيرها -بل و خلقها حينما لا تكون موجودة اصلا- و تغذية الشعور بالذنب عند متلقي التعليم، حتى يصل الأمر إلى أن يصير المسيحيين معروفين في العالم كله بثقافة ذنب لا مثيل لها. و ليس ذلك من فراغ، فالذنب ركن أساسي من أركان التعليم المسيحي المعاصر، و البابا تاوضروس مثلا عندما ذهب إلى كنيسة القديسين في الأسكندرية ليعظ، حكى عن المرأة الفاضلة التي تخاف أنها قد تكتشف عندما تقابل خالقها إنها كانت تضيع وقتها بالعمل في المطبخ، و أن يحاسبها على ذلك. حكى ذلك و استرسل في كيف اننا يمكننا ان نضيع وقتنا في العديد من الأشياء التي تبدو عادية كالنوم و الأكل... الخ!

الإحساس بالذنب هنا أساسي -تماما مثل الشعور بالاضهاد عند السلفي- فمنه يستمد التعليم معناه و أهميته و يتحول من قصة قديمة إلى واقع يخص المؤمن شخصيا.

يخلق ذلك مشكلة أخرى متعلقة و هي حتمية الفشل في الحياة الروحية. فبرغم التعليم عن ضرورة التوبة و تغيير الذهن، فإنه يجب على المؤمن ان يفشل في ذلك أو على الأقل ان يكون نجاحه مؤقتا، حتى يستطيع ان ينظر إلى الصليب ثانيا و يمر بالتجربة الروحية المرتبطة بذلك و من ثم يتوب لينال الغفران ثانيا، لكي تستمر التجربة الروحية.

أذكر مثلا عندما كنت حاضرا لدرس للكتاب المقدس في احدى كنائس المهجر و سأل المعلم الحاضرين عن هدف الصوم، و كان الرد التقليدي هو: لكي نتغير.
حسنا، ألا يعني هذا انه إن نجحنا في التغيير لن نحتاج إلى الصوم بعد ذلك؟ إما ذلك أو يكون صيامنا -هذا الصوم و الماضي و القادم- فاشلا!

هل ترى المشكلة يا عزيزي؟ لكي يستمر هذا التعليم كما هو، يجب عليه ان يسير بالمؤمن في دوائر: انت مذنب، يجب ان تتوب و تتغير، انت لا زلت مذنب، يجب ان تتوب و تتغير... الخ.
يساعد هذا التعليم على الإستمرار في بلادنا هوس المجتمع بالجنس و رفضه له في نفس الوقت، مما يوفر للمؤمن مصدر متجدد للإحساس بالذنب. و لكن ذلك لا يكفي للحفاظ على الكثير من الناس داخل الكنيسة -هؤلاء الذين تخطوا هذا الهوس بطريقة أو أخرى- كما يفقد أهميته تماما في الخارج حيث لا يعتبر أغلبية الناس ممارسة الجنس أو التفكير فيه خطيئة تستوجب العقاب.

و لكن إذا كان مركز التعليم المسيحي هو نصرة الحياة على الموت، حيث لا يأخذ الذنب بمفهومنا له دور العدو الأكبر بل الموت كما شرحه أثناسيوس مثلا، و حيث تكون قصة فداء الله هي قصة اتحاده بالبشرية (و مركزها الميلاد) و نصرته لها على الموت و الألم  (و مركز القصة هنا هو القيامة و ليس الصليب، النصرة و ليس الموت) ثم تأليه تلك البشرية بحلول الروح القدس فيها، تصبح رحلتنا معه و مع الكنيسة هي رحلة تأليه بدلا من إعادة تدوير دائمة لمشاعر الذنب و الغفران.

كم كان سيكون أفضل لو في الجنازات تحدثت عظات الكهنة عن القيامة و الرجاء في الحي الذي لا يموت، بدلا من قصر الأيام و ضرورة التعجيل بالتوبة.

كم كان سيكون أفضل لو أن البابا تاوضروس في كنيسة القديسين بالأسكندرية -تلك التي عانت من الموت أكثر من كنائس كثيرة- تحدث عن كسر شوكة الموت و نصرتنا في المسيح عليه، بدلا من الإستثمار في مشاعر الذنب التي لسيدة مسكينة مضطربة.

أليس هذا أفضل كثيرا؟ أليس أكثر إستمرارية و تواقت و أهمية؟ أليس ذو صلة وثيقة باختبارنا للحياة التي نحارب فيها الموت و الألم بشكل دائم؟

أعتقد ذلك، و أعتقد أيضا ان ابتعاد الكثيرين عن الكنيسة يرجع إلى انهم ببساطة فقدوا اهتمامهم بالتعليم، فهو بفكره الحالي غير قادر على ان يظل ذو أهمية و صلة بحياتهم، و بالتالي أصبحت دعوات الكنيسة للتبعية مضجرة و بلا فائدة.

مما يقودنا الى مشكلة التبعية، و تدوينة أخرى قادمة.


في نقد الفكر المسيحي المعاصر: 1- مقدمة

عزيزي،
لا أعتقد أني كتبت مقدمة لأي شيء على هذه المدونة قبلا، أولا لأني لا أكتب إلا حينما يشغلني موضوع للغاية حتى يبدأ في ازعاجي، و بالتالي يدفعني لإخراجه من بالي بالكتابة عنه، و ثانيا لأن قرائي ليسوا بالكثرة التي تسمح لي بأن أجازف بخسارة إهتمامهم بمقدمات مملة.

لكنني الآن اجد نفسي مضطرا لعمل إستثناء، فبدون مقدمة سوف يسيء الجميع فهم هذه السلسلة. لذلك فباختصار:
  1. هذه سلسلة هدفها طرح بعض الأفكار في الفكر المسيحي الحالي - كما عرفته من الكنائس المصرية بطوائفها و إن كان للكنيسة القبطية الأرثوذكسية نصيب الأسد - و نقدها.
  2. مثل كل التدوينات المسلسلة هنا، غالبا لن أنهي هذه السلسلة، فدائما ما أشعر ان لدي المزيد لأقوله، و دائما ما أتوقف قبل ان أقوله كله، و بالتالي فهذه السلسلة لن تشمل كل أو حتى اغلب المشاكل التي في فكرنا الديني المعاصر.
  3. تلاحظ عزيزي أنني كتبت "فكرنا". نعم، أنا مازلت أنسب نفسي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لذلك فهذه السلسلة ليس هدفها تفكيك العقيدة المسيحية و نقدها لإثبات خطأها. إن كنت جئت لهذه الصفحة بحثا عن مايعضد إيمانك النسبي بعقيدتك الغير مسيحية عن طريق قراءة نقد للمسيحية من "شاهد من أهلها"، فأنا آسف جدا، النمرة غلط.
  4. قد تجد في هذه السلسلة بعض النقد لفكر ديني غير مسيحي أيضا، لن يكون ذلك اصطناعا للحياد أو محاولة للموازنة 'علشان محدش أحسن من حد' إطلاقا. كذلك لا يجب أبدا ان تظن عزيزي أنني اريد ان أوحي لك بأن 'كله زي بعضه'. يكفيني أن تعرف ذلك.
  5. أكتب هذه السلسلة لسبب واحد، أنني أرى لنا ككنيسة إيمان أقوى و أفضل و أكثر مسيحية من ذلك الذي لدينا الآن، و هذه الرؤية واضحة جدا في عقلي و قلبي حتى أنني اجد نفسي مدفوعا دفعا لمحاولة تحقيقها و لو على مستوى ضيق (أي في القريبين لي، و لا أخفي عنك يا عزيزي أنك أحدهم)، و لن يحدث ذلك حتى نهدم المعبد على رؤوسنا أولا.
  6. قد أتحدث عن الكنيسة الأولى و الآباء أحيانا في هذه السلسلة. لكن إن كنت لا تعرفني جيدا بعد يا عزيزي، فأنا لست آبائي، أي أنني لا  أظن ان الكنيسة يجب ان تعود إلى قوانين و فكر الآباء حتى نعود كلنا إلى أي نوع من الماضي المجيد. أنا فقط أرى الآباء كأحد المصادر المهمة التي تقدر أن تكشف لنا اخطائنا الحالية و أحيانا قد تنجح في ان تقدم لها بعض الحلول. أعتقد أن مستقبلنا يجب ان يكون عالما بماضيه و مستمدا للحكمة منه، و لكنه متخطي له و متقدم فكريا و روحيا عنه كثيرا، فحتى إذا كنا نقدر على العودة إلى الماضي، فلا  أظن أنه ينبغي علينا ان نريد ذلك.
تكفينا كلينا هذه المقدمات... فلنبدأ